تخطى الى المحتوى

دولة فلسطين الديمقراطية الواحدة: مشروع مقاومة، لا مساومة

يرحّب أحرار فلسطين والعالم بفشل طرح الدولتين، كما يرحّبون بكشف الكيان المؤقّت عن أنيابه من خلال توجّهه الصريح، دولةً وتجمّعًا، نحو الفاشية. فهذان التطوّران، رغم ما يسبّبون من ألمٍ ومآسٍ لشعب فلسطين، يكشفون للمتخاذلين كما لليائسين من شعبنا، ولعدد من المتضامنين الحسني النيّة في أوروبا وأميركا الشمالية، واقع استحالة المساومة مع الحركة الصهيونية ومع أداتها دولة إسرائيل.

لذا، ليس من المستغرب أن يعود عدد متزايد من الفلسطينيين والحلفاء إلى الطرح التحرري الفلسطيني التاريخي المعروف بحل الدولة الديمقراطية الواحدة. ألا أن “الشيطان يكمن في التفاصيل”، ولا يدلّ استعمال العنوان نفسه إلى امتلاك الرؤية نفسها. وفي واقع الحال، يوحي ماضي وحاضر بعض حاملي هذا الطرح الجُدد، كما خطاب البعض الآخر منهم عند تناولهم إياه، وغموض الطرح في كلتا الحالتين، إلى وجود استعدادات للمساومة مع العدو تحت عنوان “الديمقراطية”. لا بدّ، إذا، من إلقاء الضوء على أربعة نقاط التي تستدعي ذلك والتي ينبغي لكل دُعاة هذا الحلّ تحديد موقفهم منها.

حق العودة

إن إحدى أبرز تجلّيات المسعى الصهيوني الاحلالي هو تطهيره العرقي لفلسطين من غالبية سكّانها الأصليين. لذا، ليس حق العودة مجرد حق عقاري يمكن التعويض عنه كما يمكن تقديم تعويض مالي عن سرقة ما، بل هو ركيزة أساسية من ركائز تحرير الأرض وإزالة الاستعمار. والعودة تعني عودة كل الفلسطينيين إلى كل فلسطين، وليس فقط العودة إلى أراضي الـ67، ولا حتى حصر عودة فلسطينيي الـ48 إلى أراضي الـ48 وعودة فلسطينيي الـ67 إلى أراضي الـ67، بل عودة كل من هُجّروا من فلسطين إلى حيثما شاءوا أن يعودوا ويقيموا فيها؛ ففلسطين واحدة وأرضها واحدة وشعبها واحد. لا مجال للمساومة، إذا، على حق العودة تحت أي ذريعة كان؛ والتعويض يكون تعويض عن السرقة والتهجير لا تعويض عن حق العودة، أي تعويض يُضاف إلى حق العودة لا تعويض يحل مكانه. وامتناع أي ممّن يحملون عنوان “الديمقراطية” التأكيد بصريح العبارة على حق عودة، بل على أهمية فعل عودة، كل الفلسطينيين إلى كل فلسطين، يعدّ رفضًا مشبوهًا بدوافعه ومآله.

حق المقاومة

غالبا ما يُبرّر عدم التطرّق إلى حق الشعب الفلسطيني بالمقاومة المسلحة عند مخاطبة الأوروبيين والأمريكان بأن التكلّم عن السلاح يُفقدنا دعم نحن بحاجة إليه. ومع أن السعي لنيل دعم شعوب وحكومات العالم واجب، ومع أن الحديث عن جدوى الأنواع المختلفة من المقاومة المسلّحة وكيفية إحسان استخدامها مبرَّر لا بل حاجة، لا مفرّ من العمل على تطبيع المتضامنين كما الحياديين والأخصام والأعداء مع مفهوم وحق المقاومة. فسبب امتعاض العديد من ممارسة الشعب الفلسطيني حقه بالمقاومة ليس روحهم المسالمة ولا مشاعرهم المرهفة، إذ نراهم يطالبون دولهم بتقديم السلاح لأوكرانيا، أو على الأقل يناقشون المسألة من زاوية جدواها أو فعاليتها أو تأثيرها على مصالحهم لا من باب الدعوة لمقابلة الجيش الروسي بالـ”مقاومة الشعبية”، أي اللاعنفية، والتي تشبه على نحو لافت الاستسلام. يأتي، إذا، امتعاض هؤلاء، ليس من رفضهم لمبدأ الاستخدام الشرعي للعنف بشكل عام بل من الهيمنية الصهيونية الثقافية في ما يتعلّق بحق الشعب الفلسطيني بشكل خاص بالمقاومة وبممارسته أياه. وهذا ما يساهم في إضعاف موقفنا أن نرى حتى المقاومة تبرّر مقاومتها بأنها “ردّ على جرائم العدو”، في تنازل صارخ ومؤسف، بل مرعب، عن حقنا في مقاومة العدو بسبب واقع الاحتلال لا كردّة فعل على جرائم قد يختار العدو، لسبب أو آخر، عدم اقترافها لفترة من الوقت.

ليس الاستخدام الشرعي للعنف نقيض الديمقراطية، فلَكَم من مقاومة أقامت دولة ديمقراطية من بعد التحرير؛ وهل يوجد اليوم أي دولة ديمقراطية لا تمتلك جيشًا قادرًا على حماية أرضه ومجتمعه وديمقراطيته؟ فالمقاومة، إذا، هي إحدى أدوات النضال، في حين قيام دولة فلسطين الديمقراطية هي غايته. ونقتبس هنا كلام عوض عبد الفتاح في مقاله على موقع العربي الجديد “الدولة الواحدة مشروع مقاومة وليس رؤية فحسب”: “نتبنى مبدأ التكامل لا التضارب بين البرامج والاسترتيجيات التحررية. وهذا ينبع من توجهنا ومن نظرتنا لحل الدولة الواحدة، باعتباره مشروعاً وحدوياً ومشروع مقاومة، وكفاح طويل المدى؛ مقاومة ثقافية، وأيديولوجية، وسياسية، وشعبية، وميدانية.” لا بد، إذا، من حاملي “برنامج” الدولة الديمقراطية الواحدة التأكيد على اعترافهم بحقنا في اختيار “استراتيجية” المقاومة المسلحة، رفضًا لمنطق شيطنة المقاومة الصهيوني وتفاديًا لأي غموض عن طبيعة طرحهم بصفته طرحًا تحرريًا لا طرحًا تنازليًا.

طرد المحتلّين

لا تطرح ولا وثيقة من وثائق الحركات والفصائل الفلسطينية الرئيسية طرد كل اليهود من أرض فلسطين، بل يميّز معظمها، إن لم يكن كلها، بين “اليهود” والصهاينة، أي بين هوية المرء الدينية أو الثقافية، وبين تبنيه لمشروع احتلالي واحلالي عنوانه ليس “الإقامة في فلسطين” فحسب بل “إقامة دولة خاصة باليهود في فلسطين”. وهذا الفصل مرحّب فيه، بل ضروري. ألا أنه من الخطير أن تغب مفاهيم “دحر الاحتلال” و “طرد المحتلين” كليا عن وثائقنا وطروحاتنا السياسية. ففي حين نريد لفلسطين الغد أن تكون ديمقراطية وعلمانية، أي أن تحترم حرية مواطنيها وسكّانها بالمعتقد وبممارسة شعائرهم الدينية، وألّا تميّز بأي شكل من الأشكال ضد اليهود (وهي بذلك تشكّل النقيض الجوهري للحركة والدولة الصهيونية القائمين على التمييز بين “اليهود” وغير اليهود)، لا يمكن لها أن تكون حيادية تجاه المشروع الصهيوني ولا تجاه حامليه. ونقتبس هنا كلام محمد الزريعي في مقاله المنشور في مجلة رمّان “دولة ديمقراطية واحدة، لا دولة مع المستوطنين”: “أما الصهيوني فلا تجاور بيننا، ولا مكان له في الدولة أو المجتمع. بل هو مجرم لزامًا على الدولة والمجتمع تقديمه للعدالة والمحاسبة جراء جرمه التاريخي. وتكون تلك الدولة حامية للمجتمع من الأفكار العنصرية وعلى رأسها الفكر الصهيوني.” وقد يكون غياب هذا الطرح، حتى لو لم يُلفظ عكسه بصريح العبارة، أكثر ما هو مريب في بعض الخطابات ومقالات الرأي المتعلقة بحلّ الدولة الديمقراطية الواحدة.

الأبرتهايد

كما ذُكر في مقال “رؤية جديدة لاصطلاحات سياسية سائدة” في جريدة القدس العربي، يشير الأبرتهايد إلى الفصل العنصري داخل مجتمع ما. أما دولة إسرائيل، بصفتها دولة استعمار استيطاني واحلالي، فلم تسعى لممارسة الفصل العنصري ما بين المجموعات السكانية القائمة تحت سلطتها فحسب، بل سعت وتسعى لتصفية المجتمع الفلسطيني واحلال مجتمع استيطاني محلّه. وهذا المسعى ليس مسعى ماضٍ بل هو مستمرّ من خلال رفض حقّ العودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم فيما تقدّم قوانينها الجنسية الإسرائيلية لكل يهود العالم. فلو سعت سويسرا، على سبيل المثال، لمنح امتيازات مدنية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية خاصة بمواطنيها الكاثوليك أو الملحدين أو الجرمانيين أو الرومنشيين لكان يجوز وصفها سياساتها هذه بالأبرتهايد، لكنها لا تكون دولة استعمار استيطاني إحلالي. لذا، قد يشير اللجوء المفرط إلى وصف إسرائيل بالـ”أبرتهايد” إلى استعدادٍ ما لتقديم تنازلات تطبيعية وإلى السعي لتحسين شروط العبودية عوض إفشال مشروع العدو والتحرير.

الدولة الديمقراطية الواحدة: دولة فلسطينية، لا دولة إسرائيلية “قليلة السمّ”!

سيزداد، في الأشهر والسنين المقبلة، الحديث عن “الدولة الواحدة”. لكن الواقع أن الدولة اليوم في فلسطين هي، حقيقةً، دولة واحدة، وهي دولة إسرائيل اليهودية. لذا، حرصًا على وضوح الرؤية التي أصبحت حاجة ماسة في وسط معمعة الوثائق والطروحات (القديمة كما الجديدة) الضبابية، وكي لا يكون طرح الدولة الديمقراطية الواحدة “طرحًا حقًّا أُريد به باطل”، على كل من يحملون هذا العنوان التأكيد على حق العودة وحق المقاومة وطرد المحتلين والعمل ليس على إنهاء الأبرتهايد فحسب بل على دحر الاحتلال وعلى التفكيك الكامل للكيان الاستعماري الاستيطاني الإحلالي، كي لا تكون الدولة التي نناضل من أجلها دولة إسرائيل “قليلة السمّ”، بل دولة فلسطين الديمقراطية الواحدة، من النهر إلى البحر.


مقالة من كتابة الان علم الدين، ناشط في مبادرة الدولة الديمقراطية الواحدة، نُشرت على موقع القدس العربي

سجلوا كمؤيدين لطرح الدولة الديمقراطية الواحدة