في الذكرى الـ75 لنكبة فلسطين، ما زال الموقف اللبناني من إسرائيل يتّسم بالضبابية. فلا نعترف بوجودها، لدرجة رفض كتابة اسمها دون مزدوجين، لكننا نمضي على الاعتراف “بحقوقها” في اتّفاق الهزيمة، ونعلنه انتصاراً. نجرّم التعامل معها، لكننا نسكت حين يكتب صحفي لبناني (لا يعنينا ذكر اسمه) مقالة في الصحافة الإسرائيلية داعيا “للسلام” مع العدو. نعلن مقاطعتها، لكننا نسمح عمليًا باختراق قنواتها الناطقة بالعربية ووبعرض أفلامها، ونتجاهل أبسط واجبات المقاطعة الاقتصادية والثقافية. وهي “عدوّ غاشم” و “خطر دائم”، لكن لا ميزانية لجيشنا، ولا تدريب لجنودنا، ولا خدمة عسكرية لشبابنا وصبايانا، ولا ملاجئ لنا، ولا تحصين لمجتمعنا علميًا وتربويًا وصحيًا.
فهل العداء لإسرائيل مجرّد شعار؟ بكلمات أخرى، كيف يشكّل المشروع الصهيوني خطرًا حقيقيًا على مجتمعنا إلى حدّ يبرّر العداء، وما هو مآل هذا العداء؟
المشروع الصهيوني: خطر واقع، لا “معتدي سابق”
غالبا ما يقّدم من يكنّون العداء لإسرائيل حججًا غير كافية لتبرير هذا العداء. فمزارع شبعا وتلال كفر شوبا محتلّة، لكنّ هل يكمن العداء لإسرائيل “فقط” على احتلال 23 كم مربّع؟ تبرير آخر يقول أن إسرائيل اقترفت مجازر في لبنان، ولكن ألم يقترف غيرها المجازر في لبنان أثناء الحرب الأهلية؟ فهل نعاديهم هم أيضا؟ تبرير آخر يقول أن إسرائيل مارست إبادات جماعية بحق الفلسطينيين، ولكن أليست الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والسعودية وسورية والعراق وأيران وتركيا وروسيا والصين مذنبين هم أيضًا بقتل الملايين؟ فهل نعادي العالم كلّه؟ تبرير آخر يقول أن إسرائيل تحتلّ المسجد الأقصى، ولكن ماذا عن المسيحيين أو اللادينيين؟ هل يقاوم جزء من مجتمعنا إسرائيل فيما يطبّع الجزء الآخر أو يبقى خارج الصراع؟ وماذا لو حصل اتّفاق يضع الأقصى تحت الوصاية الدولية ويفتح إمكانية الصلاة في القدس لكلّ من يستطيع إليها سبيلا؟ هل ينتهي الصراع هنا؟ وكي ننقل بصراحة ما يصرّح به العديد من مواطنينا: “شو خص لبنان؟!”
لا بدّ بالتالي من استعراض اعتداءات إسرائيل على لبنان نفسه، لا الماضية منها بل الحاضرة، حتى أصبحت أمرًا معتادًا. فاعتداءات إسرائيل على مجالنا البحري والجوّي والبرّي يومية، إضافةً لسرقتها غازنا، وهي سرقة حتى لو شرّعها زعماءنا (الممانعين منهم كما السياديين) من خلال اتفاق الهزيمة وتطبيلهم له. كما أن رفضها احترام حقّ اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى أرضهم يشكّل تعدّيًا، ليس عليهم فحسب، بل أيضًا على لبنان نفسه. ولا ننسَ الإعلان المتكرّر لمسؤولين صهاينة، منذ أكثر من مئة عام حتى اليوم، نيّتهم توسيع حدود كيانهم واعتبارهم لبنان (أو جنوب لبنان) جزء من كيانهم. فقد أعلن بن غوريون بصريح العبارة أن إقامة دولة يهودية في فلسطين “ليست سوى البداية”، وقد ضمّت خريطة “إسرائيل” التي قدّمتها المنظمة الصهيونية العالمية في مؤتمر باريس “للسلام” عام 1929 مدن صور وصيدا وجزين وراشيا. والواقع هو أن إسرائيل لم تتخلَّ قط عن مساعيها التوسّعية هذه. فقد أعلن عدد من المسؤولين الإسرئيليين نيّتهم احتلال دمشق وضمّ أراضي سورية إلى إسرائيل خلال السنوات العشر الأخيرة. وقد قدّم وزيرهم سموتريش خريطة لإسرائيل تضمّ أراضٍ أردنية وسورية ولبنانية في مؤتمر عقده في شهر آذار من هذه السنة. فلا عجب من رفض إسرائيل تبني دستور يقرّ بحدود نهائية لها. لذا، إن تجاهل جوهر إسرائيل العدواني والتوسّعي ليس سوى حالة نكران وانفصال عن الواقع، لا ترتقي إلى المسؤولية السياسية التي يتطلبها الظرف.
إلّا أن خطر إسرائيل على لبنان، لا بل على المنطقة والعالم، يتجاوز كل ما سبق. فالمشروع الصهيوني، بزعمه الهويّاتي أن يهود العالم يشكّلون قومًا أو شعبًا واحدًا، ويتمتّعون بالتالي بحقوق جماعية، ومنها حقّ إقامة دولة خاصة بهم، يشكّل خطرًا على تماسك مجتمعات المنطقة، المُصابة أصلا بآفة التفكّك الطائفي والانقسامات الهوياتية. فإذا كان من حقّ اليهود إقامة دولة خاصة بهم، أليس من حق الموارنة في لبنان، والدروز في الجبل، والعلويين على الساحل السوري، والسنة والشيعة والأكراد في العراق، إقامة دول خاصة بهم؟ حقيقةً، إن خطر إسرائيل على لبنان لا يقتصر على احتلالها لمزارع شبعا وتعدّياتها على أرضنا ومجازرها السابقة وسرقتها لغازنا ونيّتها التوسّعية. فتأثيرها الإيديولوجي-الثقافي، من خلال منطقها الهوياتي التفكيكي وتقديمها لنموذج دولة-قلعة وأداة حرب خاصة بـ”أبناء الدين الواحد”، أشدّ فتكًا بمجتمعنا من تعدّياتها “الملموسة” المذكورة أعلاه. فظهور إيديولوجيات وحركات طائفية، ومنها المسيحية الإنعزالية والإسلامية الدينية، في المنطقة وتحديدًا لبنان، ودورها في حربيّ الـ58 والـ75 الأهليتين وفي نظام الطائف وفي التفكّك الذي نشهده حاليا، ليسا منفصلين عن مشروع الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني الاحلالي الصهيوني، بل يشبهونه على نحو لافت وهم نتيجة مباشرة لوجوده وتأثيره الثقافي.
على هذا النحو، ليست الأزمة اللبنانية الاقتصادية-الاجتماعية الحالية منفصلة عن الأيديولوجية الصهيونية الهوياتية. فلا محال من الإفلاس في وجود نظام عاجز عن بناء اقتصاد منتج، وهو عاجز تحديدا لأنه يخضع لمنطق طائفي هويّاتي. فالمجتمع مكوّن في واقع الحال من فئات متضاربة المصالح، وإدارته تعني تغليب مصالح فئات على فئات أُخرى. وهذا ما تستطيع الدولة فعله، إذ تختار، على سبيل المثال، تغليب مصالح الطلّاب على مصالح المدارس والجامعات الخاصة من خلال تأمين التعليم المجّاني، أو دعم قطاع السياحة بدل قطاع الصناعة (أو العكس)، أو تغليب مصالح المستأجرين على مصالح أصحاب البيوت من خلال سياسات من شأنها رفع الأجارات، أو تغليب مصالح الأفقر على مصالح الأغنى من خلال ضرائب تصاعدية. أما زعيم الطائفة، فعاجز عن اتخاذ قرار يغلّب مصالح أية فئة من “طائفته” على مصالح أية فئة أُخرى، صونًا لزعمه “تمثيل الطائفة” و”حقوقها”. فلا سياسات، ولا انتاج، ولا تصدير؛ لا شيء سوى الاستهلاك والهجرة والتهجير، حتى الانهيار المحتوم. فالنظام الطائفي القائم على التمايز عن الآخر هو نظام عنفي بجوهره.
بالتالي، الأمر ليس ببساطة “فلنطبّع ونرتاح”. فالتطبيع قد يوقف الحرب العسكرية كما فعل في حالة مصر والأردن، لكنه لن يضع حد لتعرّضنا للمنطق الصهيوني الهوياتي التفتيتي، لا بل سيفتح باب هذا التأثّر على مصراعيه. الخطر موجود شئنا ام أبينا. فإما أن نتجاهله ونطبّع مع وجوده ونرضخ له ونقع (أو بالأحرى نستمرّ في الوقوع) في المزيد من التفكّك والعنف، أو أن نعيه ونختار مواجهة المشروع الصهيوني وكافة المشاريع الهوياتية حتى إفشالها، ارتقاءًا لمسؤوليتنا بإنقاذ مجتمعنا وحتى باقي مجتمعات الإقليم من دوامة التفكّك والعنف.
مواجهة المشروع الصهيوني من خلال الانتقال من نظامنا القبائلي لدولة قادرة
غالبًا ما يُقدَّم مفهوم مواجهة المشروع الصهيوني على أنه يقتصر على المقاومة العسكرية. طبعًا، مقاومة العدو حق، وتحرير بيروت والجبل والبقاع الغربي والجنوب شاهد على جدواها. فلو كان زعماء الطوائف على قدر المسؤولية التي يفرضها وجود هذا المشروع العدواني لكانوا اقرّوا السياسات المذكورة في المقدّمة وهي بناء جيش قويّ من خلال تخصيص ميزانية له وتسليحه وتدريب جنوده وعدم إلغاء التجنيد الإجباري وبناء ملاجئ وغيرها. وفشلهم في الانتقال من مقاومة محصورة بطائفة لمواجهة مجتمعية شاملة ليس سوى دليل إضافي على عجز النظام الطائفي بسبب انقسامه المجتمعي البنيوي.
لكنّ مواجهة العدوّ تشمل مجالات أُخرى عدّة، ومنها: قيادة حملة عربية وعالمية لمقاطعة إسرائيل اقتصاديا وثقافيا، وتأسيس اقتصاد صلب يحمي المجتمع ويحدّ من الهجرة فيمتّن علاقة اللبنانيين بأرضهم وينافس الاقتصاد الإسرائيلي (ربّما في القطاعات نفسها التي نقود حملة مقاطعة العدو فيها، كالتكنولوجيا)، وتمتين مجتمعنا من خلال سياسات اجتماعية كالتغطية الصحية الشاملة والتعليم المجاني، والمواجهة الإعلامية “الدفاعية” من خلال تثقيف شعبنا عبر المناهج الدراسية وتقوية الإعلام اللبناني (والرسمي منه) والمواجهة الإعلامية “الهجومية” من خلال حملات في البلاد العربية والغرب وحتى حملات في اللغة العبرية تستهدف الإسرائيليين أنفسهم، وسياسات ترسّخ مفهوم المواطنة، وغيرها.
يتطلّب إقرار كل هذه السياسات انتقال من سلطة نظامنا القبائلي العاجز إلى سلطة دولة قادرة على مواجهة الخارج بغية تحصين الداخل، ممّا يذكرنا بمقولة القائد الفلسطيني جورح حبش الشهيرة: “خير ما تقدمونه للقضية الفلسطينية هو نضالكم ضدّ أنظمتكم الرجعية”. كما أنّ مواجهتنا لنظامنا الرجعي في لبنان هو مواجهة مباشرة للزعم الهوياتي الصهيوني؛ وطرحنا بناء دولة تكون أداة لإدارة شؤون مجتمعها الفعلي دون تمييز ديني أو عرقي أو ثقافي، لا آلة حرب في يد فئة بوجه أُخر، يشكّل النقيض الجوهري للفكر والمشروع الصهيوني ويخاصمه في أساس زعمه. كما يشكّل خشبة خلاص لبلدنا، إذ أنه لا بدّ من الانتقال من نظام الموت إلى دولة قادرة على توزيع الخسائر وبناء اقتصاد يُخرجنا من أزمتنا المالية وينقذنا من خطر التفكّك العنفي.
ختامًا، الدعوة للبنانيين صريحة: لنَعي مدى خطورة المشروع الصهيوني، ولنرفض المنطق القبائلي المشترك بين نظام الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والنظام الطائفي اللبناني، ولننخرط في عمل سياسي منظّم من أجل الانتقال من مزرعة الطوائف لدولة قادرة، فلا تكتسب السيادة والممانعة معناهما الكامل إلا في إطار دولة. والدعوة للفلسطينيين، المقيمين في فلسطين كما المبعدين قسرًا منها، مماثلة: أدركوا قصور مقاربات القيادات الفلسطينية عن مواجهة الخطر الصهيوني. فمواجهة المشروع الصهيونية لا تكون بالاعتراف بشرعية كيانه من خلال طرح الدولتين، ولا من خلال مشروع هوياتي معاكس يضفي هو أيضًا شرعية على زعمهم (فإن كان للمسلمين حق بدولة إسلامية، كيف ننكر الحق نفسه لليهود؟)، بل بالعودة للثوابت الوطنية الفلسطينية وللطرح الفلسطيني التاريخي: دولة ديمقراطية واحدة، من النهر إلى البحر، تميّز بين المحتلين وأصحاب الأرض لكنها لا تميّز على أساس عرق أو دين أو هوية المرء. وليكن نضالنا، ضد النظام الطائفي في لبنان وضد النظام الاحتلالي الاستيطاني في فلسطين، نموذجًا تاريخيًا في نضال شعوب المنطقة ضد أنظمتهم القمعية وفي تحرير البشرية من المشروع الاستعماري.
مقالة من كتابة الان علم الدين، ناشط في مبادرة الدولة الديمقراطية الواحدة، نُشرت على موقع الشراع
سجلوا كمؤيدين لطرح الدولة الديمقراطية الواحدة