النص الأساسي لمقال من كتابة نيرة العيني وألان علم الدين على منصة أوان
أثار دعم ألمانيا الرسمي المطلق للكيان سؤال، تناولته السوشل ميديا بسخريتها المعتادة، حول إصرار ألمانيا التاريخي الوقوف إلى جانب الإبادات. لكن لا ريب من تحليل الأمر بعيدًا عن “الميمز” وبعيدًا عن الاعتبارات التبسيطية القائلة بعنصرية البيض. فهل من الصدفة أن يمتاز البلد الذي سبب إبادة السلافيين والمثليين واليهود والغجر وغيرهم بدعم مطلق للإبادة الحاصلة في غزة؟ إن فهم ماهية النازية، أي عدم اختزالها بجرائمها بل تحليل جوهرها كرؤية سياسية، يساعدنا على فهم فشل الحلفاء في إزالة النازية من ألمانيا، ويفسّر طوفان الشبح الفاشية في أوروبا وفلسطين والإقليم والعال، ويساعدنا على تحديد الحل.
الركائز الأساسية للمشروع السياسي النازي
غالبًا ما يجلب ذكر النازية إلى الذهن حروبها وجرائمها. إلا أن عنف النازية أتت ضمن سياق وهو مشروع سياسي قائم على ركائز أساسية ثلاث: تسييس الهوية والاستعمار والرأسمالية.
إن أحد أبرز أدوار الدولة هو الفصل بين الداخل والخارج، بين من يشكلون جزء من شبكة مصالح المجتمع (المواطنين) ومن لا يشكلون جزء منه (غير المواطنين). أما النازية فميّزت بين الداخل والخارج على أساس هوية المرء الإثنية والدينية والجندرية. ومن الملفت أنها استندت بذلك على نموذج الولايات المتحدة، فنسخت قوانين الفصل العنصري الأمريكية وسياساتها العنصرية.
وتجلّى تسييس النازية للهوية بشكل استعماري، فنسخت هنا أيضّا النموذج التوسّعي للمستوطنين البيض في أمريكا الشمالية في مخططاتها لغزو بولندا وأوروبا الشرقية. درس هتلر شخصيا “علم” تحسين النسل eugenics الأمريكي واستخدم المنطق نفسه لتبرير مساعي حزبه الإبادية. لم يكن التطهير العرقي الذي قامت به ألمانيا النازية بالأمر الجديد على الأمم الأوروبية كإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وهولندا والمملكة المتحدة، والتي كانت قد مارست الأمر نفسها حين استعمرت واستعبدت وإبادت شعوب الجنوب العالمي. فـ”خطية” ألمانيا بنظر جيرانها لم تكن مشروعها الاستعماري بحد ذاته بل تطبيقه على أوروبيين ضمن حدود أوروبا.
ولم تمت النازية أي “القومية الاشتراكية” nationalsozialismus إلى الاشتراكية بصلة بل كانت مشروعًا رأسماليًا بامتياز. بل كانت للرأسمالية دور حاسم ومباشر في صعود هتلر إلى السلطة. فكانت قد انتهت الحرب الأوروبية العظمى بهزيمة ألمانيا وفرض عقوبات شديدة ومنها استحواذ “الحلفاء” على ثروتها الصناعية وعلى الكثير من مواردها الطبيعية بما فيها مناجم الفحم، والاستيلاء على أسطولها الحربى وتحديد جيشها بـ٢٠ ألف جندى فقط. فرأى رأسماليو ألمانيا الصناعيون في مشروع الحزب النازي فرصةً للتخلص من هذه القيود وأيضًا لحمايتهم من “الخطر” الحركة الشيوعية على امتلاكهم وسائل الإنتاج الصناعي. فموّل هؤلاء الصناعيون حملات الحزب النازي الانتخابية ومكنته الإعلامية، وضغطوا على الرئيس هندنبروغ للقبول بتعيين هتلر مستشارًا ولعبوا دورًا حاسمًا في منح هتلر صلاحيات استثنائية رسّخت حكمه الدكتاتوري. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى علاقة الرأسماليين الألمان المميز بالولايات المتحدة قبل الحرب بحيث كان لأكثر من مئة مؤسسة أمريكية مصالح في ألمانيا، لاسيما في مجال الصناعة العسكرية؛ وخلال الحرب بحيث استمرّت الشركات الأمريكية في دعم الصناعة العسكرية وتجنّب طيران الحلفاء قصف العديد من المعامل الألمانية سب اعتراف وزير الخزانة الأمريكية “مورغنثو” لدرجة أن الإنتاج الحربي الألماني نمى رغم القصف المتزايد لألمانيا؛ وبعد الحرب بحيث برّأت محاكم “نورمبورغ” الرأسماليون الصناعوين الألمان من استعباد بشر في معسكرات الاعتقال أو أصدرت أحكام شكلية بحقهم.
هل أزال الحلفاء النازية من ألمانيا؟
وقع على من أرادوا إزالة النازية من ألمانيا تشخيص الركائز الهوياتية والاستعمارية والرأسمالية التي شكّلت علاقات القوة النازية في المجتمع النازي وتقديم مشروع سياسي مصمّم لتفكيكها. أما الحلفاء فاختاروا التركيز، لا على تفكيك المشروع السياسي النازي، بل على محاكمة الجرائم المحددة الناتجة عنه. على سبيل المثال، كان ينبغي محاكمة كل المساهمين في النازية، الألمان منهم وغير الألمان، بل محاكمة كل من اقترفوا جرائم مماثلة، بدل حصر المسألة بألمانيا. وكان ينبغي الحرص على محاكمة المشروع نفسه عوض التركيز المفرط على الأفراد، مثلًا على شاكلة “لجنة الحقيقة والمصالحة” التي جرى اتباعها في أفريقيا الجنوبية والتي فسحت أمام المستعمرين الأفريكانز إمكانية الإعفاء (“مصالحة”) عن جرائمهم في حال أقروا مجاهرةً (“حقيقة”) أنها كانت نتيجة بمشروع سياسي استعماري. وكان ينبغي مواجهة مبدأ الاستعمار نفسه أينما حال عوض حصر المواجهة بالحالة الاستعمارية النازية في أوروبا. وكان ينبغي تبني رواية رسمية تقدّم اليهود على أنهم دين يشكّل المؤمنين فيه جزء من مجتمعاتهم، حالهم حال المسيحيين والهندوس والمسلمين والملحدين، عوض الالتزام بالرواية النازية والصهيونية الهوياتية القائلة باليهود شعبًا أو قومًا. وطبعًا، كان ينبغي تفكيك شبكة المصالح الرأسمالية التي أتت بهتلر إلى السلطة من خلال تأميم المصانع أي نقل ملكية وسائل الإنتاج الصناعية من يد الرأسماليين إلى يد العمال، مما كان وضع القرار السياسي المتعلق بالمجهود الحربي في يد جنود أي حرب مستقبلية لا في يد بعض الرأسماليين المستفيدين.
لم يكن خيار الحلفاء محاكم الألمان لا المشروع النازي نتيجة خطأ أم سوء تقدير، بل كان خيارًا واعيًا. فهم أنفسهم كانوا، كما رأينا، مذبين بحمل مشاريع سياسية مشابهة. يذكر الأكاديمي والكاتب والناقد السياسي محمود ممداني في كتابه “Neither Natives Nor Settlers” أن “الحلفاء اختذلوا النازية للجرائم التي ارتكبها الألمان وتجاهلوا كونها تعبيرًا قوميًا فحموا أنفسهم ومواطنيهم من الإدانة على الجرائم التي مارسوها في أراضيهم ومستعمراتهم … وحصروا المحاكمة بالألمان فحموا مواطنيهم المتعاملين مع النازيين. ولو اعتُبرت النازية مشروعًا سياسيًا لكان كُشفت كل هذه الحقائق الأساسية، ممّا كان شكّل فرصة لطرح رؤية جديدة وثورية للنظام السياسي الحديث.”
تأثير فشل إزالة النازية على أوروبا وفلسطين
حافظ برنامج الحلفاء لإزالة شكلية للنازلة على وجود المنطلقات الهوياتية والرأسمالية للمشروع الاستعماري في الوعي (واللاوعي) المجتمعي الأوروبي. فخيار إدانة ألمانيا كبلد ومجتمع عوض إدانة النازية كمشروع سياسي رفضه عدد من الألمان وساهم فيه عدد من غير الألمان كان بحد ذاته مقاربة هوياتية. وهكذا جرى ترسيخ تسييس الهوية، أداة يستخدمها الاستعمار لتفتيت المجتمعات التي يستهدفها، في المجتمعات الاوروبية نفسها، ففككها وما زال يفككها هي.
وهذا أحد العوامل التي تفسّر صعود اليمين الأوروبي المتطرف اليوم. على سبيل المثال، يلحظ حزب “ديمقراطيو السويد” اليميني المتطرف النسبة المترفعة للجريمة في الأحياء التي يقطنها المهاجرين الجدد. وعوض تشخيص السياق المادي لهذه الجرائم، يضع اللوم على هوية المهاجرين. ومن الملفت ميل اليسار الأوروبي للوقوع في فخ تسييس الهوية نفسه، إذ يسارع للدفاع عن الفئات المهمشة دون تشخيص جذور المشكلة وطرح مشروع سياسي يعالجها. فيستبدل خطاب اليمين “ضد الآخر” بخطاب “مع الآخر” يرسّخ مفهوم “الآخر” الهوياتي بجوهره.
كما ساهم ترسيخ المنطق الهوياتي إلى حروب وحروب أهلية في أوروبا. وقد يكون تقسيم يوغوسيلافيا على أساس طائفي أبرز مثال لفشل تفكيك التشكلات الهوياتية المجتمعية ونتائج هذا الفشل. كما وظّف الرئيس الروسي بوتين الهويات، مشيرًا إلى “إثنية” سكان شرق أوكرانيا “الروسية” ومدعيا أن لا وجود لقومية أوكرانية، ومستخدمًا هذه المنطق الهوياتي لتبرير غزوه لأوكرانيا. وهو نسخ للحجج التي استخدتمها ألمانيا النازية حين أشارت “لإثنية” مواطنين بولونيين “الألمانية” لتبرير عزوها بولونيا، بالتنسيق مع الاتحاد السوفييتي، عام 1939.
ولا بد من الإشارة إلى دعم أوروبا للصهيونية كتجلي لمنطقها الهوياتي. فبدل تعويض ضحايا النازية الحقيقة، ومنهم طبعًا الأوروبيون اليهود التي استهدفهم الإجرام النازي، ورفض اعتبار النازية الأوروبيون اليهود جزءً من مجتمعات أوروبا، قبلت ألمانيا وأوروبا بمنطلقات الفكر النازي العنصرية وقدمت التعويضات للحركة الصهيونية المدعية تمثيل كل يهود العالم. فدعمت إقامة “دولة قومية للشعب اليهودي”. وهكذا ساهمت أوروبا في تقسيم فلسطين وتطهيرها العرقي، وصولًا إلى إبادة غزة اليوم. وتشراك الصهانية والنازية النظرة نفسها إلى اليهود بصفتهم قومًا منفصلًا يفسّر اعتبار هرزل “المعادون للسامية حلفاء الصهيونية”. فأي فرق بين اعتبار هتلر أو نتنياهو أو حاخام كنيس باريس الكبير أن “لا مستقبل لليهود في أوروبا”؟
فشل الحلفاء في تفكيك الركائز الهوياتية والرأسمالية لمشاريعهم الاستعمارية فتسببوا بضرر لهم ولنا. لكن التاريخ لم ينتهِ. فإمكان الأوروبيون اليوم، ومنهم ملايين العرب من لبنانيين وسوريين وآخرين المقيمين في أوروبا ولاسيما الحائزين على جنسيات أوروبية، مواجهة هذه المشاري. ولا بد من مواجهة المشاريع الهوياتية والاستعماري، لاسيما المشروع الاستيطاني الصهيوني، في بلداننا. وهذا ما يتطلب الانتظام في حركات سياسية ترى الدول أدوات وظيفية لإدارة شؤون المجتمع، لا مكنات حرب هوياتية؛ وترى المجتمع على أن مجموعة أفراد تجمعهم شبكة مصالح، لا قبائل طائفية؛ وتدرك دور الرأسمالية في توظيف الهويات وتفكيك المجتمعات. ليس الانتظام السياسي بوجه المشاريع الاستعمارية بالأمر السهل. لكنه، دون شك، أسهل من الخنوع له والوقوع تحت الاحتلال والتفكيك الطائفي والحروب الأهلية التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم.
سجلوا كمؤيدين لحل الدولة الديمقراطية الواحدة