تخطى الى المحتوى

نحو تحرير المجتمعات البشرية من المؤسسات الاستعمارية

مقال من كتابة ألان علم الدين نُشر على صحفية الهدف

يثير سكوت ما يسمّى “المجتمع الدولي” عن الإبادة الحاصلة في غزة عدد من التساؤلات حوله: كيف يسمح بإبادة شعب؟ لماذا لم تتمكّن الأمم المتحدة من إيقاف المجزرة؟ هل المحاكم الدولية عاجزة؟ وهل يمكن وصف هذه المؤسسات بالحيادية والعادلة؟

غالبًا ما يكون الجواب أن “المؤسسات الدولية” و “القانون الدولي” عاجزة أو فاسدة. لكن ثمة رأي آخر يقول أن هذه المؤسسات ليست “مقصّرة” بل مصمّمة أصلًا لخدمة واقع استعماري عالمي. يعتبر الخبير في القانون الدولي رالف وايلد، على سبيل المثال، أن القانون الدولي هو جزء من “عدة السيّد”. فيما يدّعي المحامي المتخصص في المسائل الدستورية إيميليو دابد أن النظام الدولي يعمل “تمامًا كما هو مقصود”: لا لإنهاء الحروب بل لضبط استمرارها في خدمة مصالح امبريالية واستعمارية. فعلًا، إن إلقاء نظرة لتاريخ نشأة هذه المؤسسات وتصميمها وقوانينها يكشف الغاية الاستعمارية من وجودها، ويدلّ على الطريق.

“المؤسسات الدولية”: أدوات استعمارية

يكشف تاريخ نشأة المؤسسات الدولية الغاية من وجودها. على سبيل المثال، ظهر مفهوم المحاكم الدولية بعد ما يسمّى الحرب العالمية الأولى وجرى تأسيسها بعد ما يسمّى الحرب العالمية الثانية. إلا أن هذه الحروب لم تكن “عالمية”: فالأولى حرب أوروبية محض، والثانية حرب بين القوى الاستعمارية في الشمال العالمي اقتصر “دور” الجنوب العالمي فيها على توفير جنود للـ”كومنولث” common-wealth (وهو تعبير استعماري بدوره، فالثروات لم تكن مشتركة إلا باتجاه واحد). هذا ليس عرَضيًا. فالمركزية الأوروبية eurocentrism والمنظار الاستعماري خلف هذه التعابير يأتيان في صلب نقاشنا: لماذا لم تُطرح إقامة محاكم دولية حين استعمر واستعبد وأباد الأوروبيون باقي شعوب العالم على مدار مئات السنين؟ لماذا لم تُطرح إلا حين هاجمت القوى الاستعمارية بعضها البعض؟ إذن، يكشف تاريخ نشأة هذه المؤسسات الغاية منها: حماية المستعمِرين من بعضهم البعض، لا حماية المستعمَرين من المستعمِرين.

كما يكشف تصميم هذه المؤسسات الغاية نفسها. على سبيل المثال، تمنح “الأمم المتحدة” (اسم مبني على نموذج الدولة-الأمة الأوروبية) “حق” الفيتو لـ”إعضائها الدائمين”، أي أنها تضمن ألا يحصل شيء إلا برضى هذه الدول الخمس، وهذا ما يحميها (مجدّدًا) من بعضها البعض. فالأمم المتحدة صُممت كمسرح مواجهة وتفاوض بين الدول المنتصرة الخمسة في الحرب “العالمية” الثانية على حساب باقي مجتمعات العالم. على سبيل المثال، لم تخفي الحركة الصهيونية كونها حركة استعمارية، لكن القوى الخمسة اعترفت بإسرائيل دولة شرعية فحالوا دون إدانتها على احتلال فلسطين عام 1948. حقًا، إن غاية المؤسسات الاستعمارية شرعنة الاستعمار.

صُمّمت المحاكم الدولية بنفس الطريقة. على سبيل المثال، مع أن جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أطراف في محكمة العدل الدولية وخاضعة لقراراتها، قرّرت القوى الاستعمارية الخمسة ألا تسمح لها بتنفيذ قراراتها بل فوّضت هذه المسؤولية للأمم المتحدة، أي لتوافق هذه القوى الخمسة نفسها. وهذا ما رأيناه عام 2022 حين أصدرت المحكمة قرارًا “ملزمًا” بوقف روسيا عملياتها العسكرية في أوكرانيا دون أن “تلزمها” بشيء على أرض الواقع.

أمّا المحكمة الجنائية الدولية، فالولايات المتحدة وروسيا والصين ليست أطرافًا فيها، فلا ولاية قضائية للمحكمة عليها. وهذا يعني أن انضمام أي دولة كطرف في المحكمة تلزمها قرارات المحكمة دون أن تحميها من هذه القوى الثلاث. النتيجة أن غالبية الأفراد الـ57 التي اتهمتهم المحكمة من الأفارقة، في حين أفلت المجرمون “البيض” أمثال طوني بلير وجورج بوش من الاتهام بقتل أكثر من مليون عراقي. توحي هذه المحاكم بمقدار من الاستقرار والأمان، بأننا لا نعيش في الغابة. لكن أحكامها لا تعتمد على قيم أخلاقية سامية بل على نتيجة المواجهة والمفاوضات بين القوى الاستعمارية. فهي لا تؤثّر على الواقع من خلال فرض أمر ما على القوى الاستعمارية بل تكشف واقع موازين القوى القائمة أصلًا بينها.

وحتى ما يسمّى بالقانون الدولي نفسه يكشف غاية استعمارية. على سبيل المثال، تحرّم المادة 51 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقية جنيف بشأن حماية المدنيين “الھجمات العشوائیة” كالتي “تستخدم طریقة أو وسیلة للقتال لا یمكن أن توجه إلى ھدف عسكري محدد”، وهو مبدأ إنساني مشروع. إلا أنه من الصعب، أو حتى شبه المستحيل، أن تمتلك حركات التحرر الوطنية أسلحة دقيقة كالتي تستخدمها القوى الاستعمارية العظمى. ولا تسعى اتفاقية جنيف لحلّ هذه المعضلة، بل أنها لا تلحظها من الأساس. وهكذا تصبح الصواريخ البدائية التي تطلقها المقاومة الفلسطينية باتجاه مستوطنة إسرائيلية “جريمة حرب” بسبب عشوائيتها، في حين تتوافق الصواريخ الإسرائيلية الأمريكية الصنع مع اشتراطات الاتفاقية بحيث أنها صواريخ دقيقة ويمكن للاحتلال أن يوجهها على “أهداف عسكرية” (حقيقية أو مزعومة) ولو أدّى استخدامها لقتل عشرات المدنيين. وهذا ما حمى الكيان من الإدانة بجرائمه على مرّ العقود، بحيث تطلّب الأمر إبادة غير مسبوقة ومئات ألوف الشهداء والجرحى كي تضطرّ المحاكم الدولية على إدانتها، ممّا يكشف قصور “القانون الدولي” عن تثبيت مبادئ عادلة حقيقية.

وقد يكون جواب “القانون الدولي” على السؤال “هل الاستعمار الاستيطاني جريمة ضد الإنسانية؟” أبرز ما يكشف غايته الاستعمارية. فنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهو مرجع عالمي بخصوص الجرائم ضد الإنسانية، يتضمن قائمة لهذه الجرائم. ولا تتضمن القائمة الاستيطان. ومع أنها تتضمن بعض عناصر الاستيطان، كالإبعاد القسري للسكّان أو الإبادة، فهي لا تتضمن عناصر أساسية للاستيطان كجلب المستوطنين لحل محل المجتمع الأصلاني، الاستيلاء على الأراضي والبيوت، الاحتلال العسكري، واستهداف قوى الدفاع الوطنية بدافع الاستيطان.

كما أن نظام روما الأساسي لا يلحظ أي فرق بين مدنيين يقيمون في بيوتهم ومدنيين مستوطنين، فـ”تحمي” المعتدون والمعتدى عليهم على حد سواء! وهذا يعني أن لصاحب بيت حق استخدام العنف ضد لصّ دخل بيته لسرقة المال (بحسب القانون المحلي) ولكن ليس لاسترجاع بيته من لصوص سرقوا البيت بأكمله (بحسب القانون الدولي)! والأسوأ أن هذا القانون الدولي لا يعتبر سرقة المستوطنين لبيوت هُجّر أصحابها جريمة، لكنه يعتبر محاولة أصحاب البيوت استرجاع أصحاب البيوت بيوتهم من المستوطنين جريمة!

ما العمل؟

يحمينا إدراكنا لواقع النظام العالمي الاستعماري من فقدان الأمل حين “يعجز” هذا النظام عن تحقيق العدالة. طبعًا، هذا لا يعني أنه لا يمكن استخدام هذه الأدوات طالما هي موجودة، كاستخدام الإدانات الدولية لإسرائيل للإشارة إلى جوهرها الاحتلالي الاستيطاني. كما أن إدراكنا لكون المؤسسات الدولية ساحات مواجهة وتفاوض بين الدول يساعدنا على اختيار معاركنا: فعوض “انتظار” قراراتها، يمكننا العمل على تعديل موازين القوى بهدف التأثير على التفاوض وبالتالي المساهمة في تحصيل قرارات مؤاتية. وهذا ما يتطلّب الانتظام السياسي بهدف استلام السلطة والجلوس على طاولة المفاوضات (دون الإغفال، طبعًا، عن إمكانية ممارسة التأثير في القرار حتى قبل استلام السلطة). تبرز أيضًا الحاجة لاختيار ساحات مواجهة نختارها نحن المنخرطون في الحركات التحررية الوطنية لا القوى الاستعمارية، ومنها، في حالة فلسطين، المقاومة المسلحة والمقاطعة ومواجهة التطبيع ومواجهة سرديات العدو والعمل على إعادة إحياء الطرح الفلسطيني التحرري التاريخي لتفكيك “الدولة اليهودية” وإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية واحدة من النهر إلى البحر.

كما ينبغي أن نولي انتباهًا خصوصيًا لخطابنا بحيث لا نضفي شرعية على المؤسسات الاستعمارية. على سبيل المثال، أصبح من الشائع أن نتكلم عن “حق العودة حسب قرار الأمم المتحدة 194”. لكن نصّ القرار لا يخدم دائمًا حق العودة. فهو يتكلم، مثلا، عن “وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم”، وهذا ما يسمح للعدو بالمحاجة أن لا حق للفلسطينيين الداعمين للمقاومة بالعودة إلى ديارهم بحيث “لا يرغبون في العيش بسلام مع جيرانهم”! كما أن ربط حق العودة بقرار الأمم المتحدة يضفي بحد ذاته شرعية على هذه المؤسسة التي اقترحت تقسيم فلسطين واعترفت بشرعية الكيان فساهمت في النكبة. بدل شرعنة المؤسسات والتدخلات الاستعمارية، لنصوّب البوصلة ونبرز حق أصحاب الأرض بالعودة إلى أرضهم ولنتكلم عن واجب العالم الأخلاقي بدعم حق المجتمع الأصلاني باتخاذ القرارات التي يراها مناسبة بصفته سيدًا في داره.

لكن الهدف الطويل الأمد ليس “حسن التعامل” مع النظام العالمي بل العمل على تفكيكه. وهذا يشمل بلورة البديل. هناك من يطرح “دمقرطة” الأمم المتحدة بحيث تلغى الامتيازات الاستعمارية فيها. وهذا يتطلب تحليل علاقات القوة الاستعمارية المتحكمة فيها وطرح خيارات محددة تفكك هذه العلاقات والعمل السياسي المنظم على الوصول إلى سلطة داخل مجتمعاتنا بحيث نتمكن من فرض البديل.

من ناحية أخرى، لا ضمانة أن تكون دمقرطة الأمم المتحدة هي الحل. فوجود جسم دولي يستطيع التدخل في شؤون أعضاءه يحد من سيادة الدولة، وهذا ما يمكن استغلاله من قبل المشاريع النيوليبرالية و/أو الهوياتية القائمة على تقويض الدولة. فكما رأينا في سوريا والعراق والسودان وغيرها، يؤدّي تفكيك الدولة لتفكيك المجتمعات على أساس طائفي-قبلي، مما يضعف مناعة المجتمع للتدخلات الخارجية وغالبًا ما يقود للعنف أو حتى الحروب الأهلية. فالحل في هذه الدول الثلاث العمل على فرض انتقال سلطة من أنظمة دكتاتورية لأنظمة ديمقراطية مع المحافظة على الدولة ومؤسساتها دون تقويض شرعيتها بحيث تحمي المجتمع من التدخل الخارجي والتفكك الهوياتي في آن واحد. وهو أمر يعود لحركات سياسية ديمقراطية محلية لا قوى دولية.

لذا، لا بدّ من تأسيس وتمتين قوى ديمقراطية تعمل على كسر علاقات القوة الاستعمارية في بلداننا، إن كان في الشمال العالمي أو الجنوب العالمي، كخطوة أولى نحو تحرير الجنس البشري من السطوة الاستعمارية. وهذا يعني تأسيس الأفراد الطامحين الحرية لحركات تحررية أو انتظامهم فيها متى ما كانت موجودة. وعلى هذه الحركات إدراك واقع النظام العالمي الاستعماري وإدراك دور الرأسمالية وتسييس الهوية في المشروع الاستعماري. كما عليها العمل على الاستفادة من الأدوات المفاهيمية والتحليلية التي قدّمها اليسار الثوري على مرّ القرنين الماضيين، دون الوقوع في جمود ايديولوجي منفصل عن الواقع، وهذا ما يتطلب اعتياد ممارسة الجهد النقدي لفهم الواقع وشق الطريق الثوري. وعوض حصر انتباهها على بلدانها، على هذه الحركات التحررية التواصل مع حركات تحررية أخرى وبناء شبكات فوق قطرية. فالمشروع الاستعماري عالمي، وعلى النضال التحرري أن يكون كذلك.

سجلوا كمؤيدين لحل الدولة الديمقراطية الواحدة