يمكن تعريف الهوية بأنها ماهية الشخص أو الأشخاص، أي مجموعة صفات تشمل كل جوانبهم وتميّزهم عن الآخرين وتجعلهم منفردين بها. وغالبًا ما تتشكّل هويّات جماعيّة قد تكون إثنيّة، دينيّة، ثقافيّة، جندريّة، أو غيرها. وكلّما كانت هذه الصّفات أو الخلفيّات المشتركة منفصلة عن واقع الأفراد الاجتماعيّ ومصالحهم المادّيّة، كان تمايزهم الهويّاتي عن غيرهم متخيّلًا اجتماعيًّا. إن تسييس الهويّة، أي اعتبار أنّ من تجمعهم هذه الهويّة وتميّزهم عن غيرهم يشكّلون مجموعةً أو طائفةً أو قومًا، وبالتّالي يتمتّعون بحقوقٍ خاصّةٍ بهم، حتّى لو خلا هذا الاعتبار من أيّ كرهٍ للآخر، يحدِث شرخًا هويّاتيًا في المجتمع.
على هذا النّحو، إنّ اعتبار هويّة المرء أو خلفيته عاملًا مؤثّرًا في منحه أو حرمانه الإكرامَ أو الحقوق أو الامتيازات، كالعضويّة في حركةٍ سياسيّةٍ أو امتلاك حقوقٍ مدنيّةٍ كالتّعليم أو العمل أو الإسكان أو امتلاك الأرض أو حرّيّة التّنقّل أو الإقامة أو الجنسيّة أو غير ذلك، هو تجلٍّ لمقاربةٍ هويّاتيةٍ لدى إيديولوجيّة أو حركة سياسيّة أو دولة.
ليست هذه المقاربة وليدة الصّدفة، بل هي جوهر المشروع الاستعماري. ففي حين يندمج المهاجرون في المجتمع الذي ينتقلون إليه، يفرِز المستوطنون أنفسهم عن “الآخر” ويعملون على تشكيل مجتمعٍ ونظامٍ سياسيّ خاصّين بهم، يفكّكان المجتمع القائم ويحلاّن محلّه. لذا، عمل المشروع الاستعماريّ على مرّ العصور على تسييس الهويّة بهدف إحداث شروخاتٍ وتفكيك المجتمعات التي استهدفها. وقدّم هذا المشروع نموذجَ ما سمّاه “الدّولة القوميّة”، أي دولة تميّز بين مواطنيها على أساس خلفيتهم وتكون آلة حربٍ خاصّةٍ بمجموعةٍ في وجه أخَر، عوض أن ترى الأفراد مواطنين على اختلاف خلفيّاتهم وتكوّن أداة لإدارة شؤون المجتمع. وما كانت نتيجة تسييس الهويّة هذا إلا قرونا من التّفكيك المجتمعيّ والتّمييز القانونيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ والثّقافيّ والفصل العنصريّ “أبرتهايد” والاستعباد والنّزوح الجماعيّ والتّطهير العرقيّ والإبادات الجماعيّة وغيرها من الجرائم.
لا يمكن أن تقتصر مواجهة هذه الآفة على الإدانة الأخلاقيّة، أو الاحتكام إلى قوانين، أو المناداة بما يسمّى “حقوق الإنسان”. ولا يمكن أن تقتصر على محاكمة الجرائم والمجرمين دون مواجهة ومحاكمة وإفشال المشروع السّياسيّ القائم على تسييس الهويّة وإحداث شروخاتٍ هويّاتيةٍ في المجتمعات. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى مخاطر هذه المقاربة:
إنّ المشروع الصّهيونيّ، بزعمه أنّ يهود العالم يشكّلون قومًا واحدًا صاحب حقوق ومنها حقّ إقامة دولةٍ خاصّة بهم، وبإقامته هذه الدولة على أرض فلسطين، ليس سوى تجلٍّ للمشروع الاستعماري العالميّ، وقد يكون أبرز تجلٍّ له.
من هذا المنطلق، ترفض مبادرة الدّولة الدّيمقراطيّة الواحدة المقاربات الهويّاتية كالاعتراف بشرعيّة الدّولة اليهوديّة من خلال “حلّ الدّولتين”، أو مواجهة المشروع العنصري بمشروعٍ عنصري آخر، فالمحتلّ يقاوَم ويطرَد لأنه محتلّ، وليس على أساس دينه أو هويّته. بالأحرى، يأتي حلّ الدّولة الدّيمقراطيّة الواحدة ليقول إنّ مواجهة المشروع الصّهيونيّ لا تكون إلّا بمشروع سياسيٍّ يصيبه في أساسِ زعمه، أي مشروعٍ يرى الدّول أدواتٍ لإدارة المجتمع على أساس مصالح مواطنيه الحقيقيّة، لا آلاتِ حربٍ خاصّة بمجموعات هويّاتية في وجه مجموعات هويّاتية أخرى. إنّ هذا المشروع الهادف لقيام دولةٍ ديمقراطيّةٍ واحدةٍ، على كامل تراب فلسطين، يشكّل النّقيض الجوهريّ للمشروع الصّهيونيّ وللنّموذج الهويّاتي الاستعماريّ العالميّ.
قراءات ذات صلة
كسر الجمود: طريق ثالث — إدوارد سعيد
من خطاب المواطنة إلى خطاب التحرر وتفكيك الأبرتهايد والاستعمار — عوض عبد الفتاح، "حملة الدولة الديمقراطية الواحدة"
الزواج الديني قاعدة و"المدني" استثناء — ناجي الخطيب، "فلسطين العلمانية"
فلسطين إذ تتجاوز التقسيم والدولة القومية — ليلى فرسخ، "الشبكة"
دولة مدنية في كامل فلسطين — حركة مواطنون ومواطنات في دولة
سجلوا كمؤيدين لطرح الدولة الديمقراطية الواحدة