وظّف الاستعمار على مدى قرون الهويات الدينية والإثنية لتبرير بطشه. وها هي الصهيونية اليوم توظّف الدين لتدّعي أنها “مسعى يهودي” ولتنعت كل من يقف في وجهها بـ”معاداة السامية”. لذا نقدّر جهود اليهود الذين اتّخذوا موقفًا جريئًا إلى جانب نضالنا الفلسطيني التحرري، ولذا نخاطبكم. فأكثر ما آلمنا خلال الأسابيع الماضية ليس سادية العدو، التي ليست سوى استكمال لـ75 عامًا من الاضطهاد، بل صمت الصامتين. أما أصواتكم، بل صراخكم، كما صوت الملايين من الحلفاء الآخرين حول العالم، فهي ترطّب الروح. والأهم من ذلك أن مجاهرتكم لرفضكم المشروع الصهيوني تفضح زعمه بأنه “حركة يهودية” وبأن أعداءه “معادون للسامية”، وهي بالتالي تزعزع أساس “شرعيته” المدّعاة. نعم، إن موقفكم ثمين.
أما التاريخ فيشهد لصوابية موقفكم السياسي. فقد أقام اليهود في فلسطين، في وسطنا، بل كجزء من نسيج مجتمعنا، على مدى قرون. غزة نفسها كانت تحتوي على حيّ يهودي عاش أهله بسلام حتى القرن العشرين. لا صحة إذًا لمقولات “الحروب الدينية” و “صراع الحضارات”: فما سبّب النكبة هو الاستعمار الصهيوني لا اختلافات دينية. واليوم، ليس نضالنا ضد اليهود إنما ضد الإيديولوجية والحركة التي وظّفت الدين لتبرير عنجهيتها. ولا نسعى لـ”إبادة اليهود من فلسطين” بل لتفكيك “الدولة اليهودية” وعلاقات القوة الكولونياتية، وإقامة النقيض الجوهري لها، وهو دولة ديمقراطية علمانية فلسطينية واحدة، من النهر إلى البحر. دولة ديمقراطية بحيث أنها تؤمّن حقوق متساوية وصحّة التمثيل لكل مواطنيها؛ علمانية بحيث تحترم حرية المعتقد ولا تميّز على أساس هوية المرء الدينية أو الإثنية أو غيرها؛ فلسطينية بحيث تؤمّن حق العودة وتنهي نظام الفصل العنصري الممارس ضد الفلسطينيين وتعيد بناء المجتمع الفلسطيني التعددي إلى ما كان عليه قبل “إسرائيل”: فسيفساء حية وجميلة.
أما أنتم فقررتم، لأسباب دينية أو إنسانية، اتخاذ موقف أخلاقي إلى جانب نضالنا التحرري. وليس هذا الموقف مجرد تضامن مع فلسطين بل هو من مصلحة مجتمعاتكم نفسها. فبتسييسها وتوظيفها للهوية، لا تفتّت السردية الاستعمارية المجتمعات التي تستهدفها فحسب، بل أيضًا التي تنشئها والتي تنبثق منها: فهي استهدفت فلسطين وسبّبت نكبة ما زالت مستمرّة ونرى تجلياتها في غزة اليوم، لكنّها أنشأت أيضًا مجتمعًا تخرقه النزعات الهوياتية بين مؤمنيه وعلمانييه، وأشكينازييه ومزراحييه، وبيضه وسوده، وغيرها من الحساسيات الهوياتية. كما أنها تهدد نسيج المجتمعات التي انبثقت منها، كما يتّضح من تسطيح الصهيونية للهويات اليهودية المحلية (اليديشية والسفردية والعربية) لمصلحة “هوية إسرائيلية” مصطنعة مبنية على القمع والترهيب، ومن التحالفات المريضة بين الصهيونية والحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا وأميركا الشمالية. ألا يرتعب المواطنون الفرنسيون اليهود حين يصرّح نتانياهو أن إسرائيل، لا فرنسا، هي بيتهم؟ ألم يعاني الأوروبيون اليهود بما فيه الكفاية من الإيديولوجيات والحركات والدول الأوروبية التي رأت أنهم لا ينتمون حقًا لمجتمعاتهم؟ نجحت الإمبريالية الغربية في استخدام المنطق الهوياتي لحشد الطاقات لاستعمار فلسطين وغيرها من البلدان، إلا أن هذا المنطق سيكلفها اثمانًا باهظةً.
لذا ليس نضالنا لتفكيك الكيان الاستعماري الاستيطاني ولإقامة دولة ديمقراطية واحدة محصورًا بفلسطين، بل هو ينطلق من أرضنا ليحرّر العالم بأسره. وقد أظهرت الأسابيع الماضية أن احتلال فلسطين هو نتيجة لشبكة إمبريالية واسعة تشمل الكيان الاحتلالي لكنها تمتدّ من قطاع صناعة الأسلحة الرأسمالي في الولايات المتحدة لبلديات أوروبا لخوارزميات “ميتا” وللسلطة الـ”فلسطينية” والحكام “العرب”. فنضالنا ضد الاستعمار هو نضال الجنس البشري، وانضاممكم إليه ليس مجرد تضامن مع فلسطين بل هو حاجة لنجاتكم.
سنسمح لأنفسنا، باسم نضالنا المشترك، بتقديم اقتراحين. الأول فوري: استمروا في الضغط على أنظمتكم لإيقاف الإبادة الجماعية في غزة وفرض وقف فوري لإطلاق نار. العبوا دورًا في أحزاب منظوماتكم “الأقل يمينيّةً”: هدّدوا بإحداث انقسامات فيها واضغطوا على قادتها، فهم جبناء وسيطيعونكم اذا نظّمتم جهودكم. والاقتراح الثاني طويل الأمد. ميّزوا أصحاب القرار الحقيقيين في مجتمعاتكم، وميّزوا استخدامهم للسرديات الهوياتية التي تفكك مجتمعاتكم. ومع الوقت، نأمل أن تنضمّوا لأحزاب تحمل مشروع للانقلاب على هذا النظام السياسي النجس، لا اللعب تحت سقف هيمنته الثقافية النتنة وعلاقات القوّة القمعية الخاصة به.
نشكركم، حلفاءنا الأعزاء، على كل جهودكم. ونأمل أن نصبح على اتصال في المستقبل القريب بغية تنسيق جهودنا من أجل عالم جديد: عالم تكون فلسطين فيه حرّة، وتتحرر بقية مجتمعاته من الشروخ الهوياتية ومصالح رأس المال؛ عالم ما بعد الاستعمار، عالم ديمقراطي ومتضامن وعادل وحرّ.
لقد وقع 14369 شخص على هذه الرسالة. يمكنكم الاطلاع على أسمائهم أو إضافة توقيعكم من خلال ملء الاستمارة أدناه.
إذا كنتم توافقون على مضمون هذه الرسالة، ندعوكم للتسجيل كمؤيدين لطرح الدولة الديمقراطية الواحدة عبر الاستمارة أدناه: